36 ساعةتأملات في الإسلام

وقفة للتأمل : لكل هِمته، فما همتك…؟

الجديدة 36. لكل هِمته، فما همتك….؟
رجل اسمه كافور الإخشيدي كان واليا على مصر، حيث حكمها وجزءا من بلاد الشام مدة 23 عاما، وقبل أن يصبح حاكما، كان كافور الإخشيدي عبدا أسودا يباع ويشترى في الأسواق، فجيء به مرة ومعه عبد آخر إلى الديار المصرية ليباعا في أسواق العبيد، فجلسا يتحدثان، وبدأ كل منهما يسأل الآخر عن أمنيته وطموحه وهمته.
قال صاحبه: أتمنى أن أُباع لطباخ، لآكل ما أشاء وأشبع بعد جوع.
وقال كافور : أما أنا، فأتمنى أن أملك مصر كلها لأحكم وأنهى وآمر فأطاع.
وبعد أيام، بيع الأول صاحب كافور لطباخ، وبيع كافور لأحد قادة مصر.
وما هي إلا أشهر حتى رأى القائد المصري من كافور كفاءة ونباهة وقوة وموهبة وإخلاصا، فقربه منه وجعله يدَه اليمنى، ولما مات القائد، قام كافور مقامه، واشتهر بذكائه وفطنته وشجاعته، فما زال يجد ويجتهد ويترقى في المناصب، حتى ملك مصر وأنحاء الشام.
وهو حاكم، مر كافور يوما بصاحبه، فرآه عند طباخ يعمل، وقد ساءت حاله، فالتفت كافور إلى أتباعه وقال:”لقد قعدت بهذا همته فكان كما ترون، وطارت بي همتي فصرت كما ترون، ولو جمعتني وإياه همة واحدة، لجمعنا مصير واحد”..
فتأمل… من الناس من تكون همته عالية إلى السماء، ومنهم من تكون همته ساقطة سافلة تهبط به أسفل سافلين.
الهمة هي مقدمة الأشياء، هي بمثابة طاقة كامنة في ذات الإنسان تدفعه للحركة والعمل، فمن صلحت همته وصدق فيها، كانت حركته تجاه الخير ومعالي الأمور فصلح له ما وراء ذلك من الأعمال، ومن فسدت همته فإن حركته تنصب في الشر والركون إلى الدنيا وسفاسف الأمور.
يقول ابن القيم:”النفوس الشريفة، لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار”.
فعلو الهمة، أمر مطلوب شرعا، بحيث تواردت نصوص من القرآن والسنة النبوية على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور وتحذيرهم من سقوط الهمم، وتنوعت الأساليب في ذلك، فمنها ما جاء على سبيل مدح أهل الهمم العالية والإشادة بهم والثناء عليهم، ومنها ما جاء على سبيل ذم أهل الهمم الساقطة المنحطة.
فأصحاب الهمم العالية، المجاهدون أهل الطموح والمثابرة فضلهم الله على غيرهم، قال سبحانه:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
ومن النصوص القرآنية كذلك، أن الله سبحانه وصف أوليائه الذين كبُرت همتهم في مواطن البأس والجد والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله، وصفهم بوصف الرجال، قال سبحانه:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
ومن النصوص النبوية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز).
أما أصحاب الهمم الساقطة المنحطة، فقد جاء تصويرهم في أبشع صورة، قال تعالي:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}.
عالي الهمة تتحدى همته ما يراه مستحيلا، يجود بالغالي والرخيص، بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، لا تُنال إلا بالتضحية وحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}.
أصحاب الهمم العالية، هم صناع الحياة وقيادات المستقبل في أي أمة من الأمم في القديم والحديث.
فالأمة التي تهتم بأصحاب الهمم والطموحات العالية، تصنع بهم مستقبلها المشرق، ففي مثلهم يكمن الأمل، ويسطع نور العزة والكرامة.
والأمة التي تُهمل وتُغَيب أصحاب الهمم والطموحات العالية، سوف تشقى حين يتولى أمورها أصحاب نفوس دنيئة وهمم منحطة متدنية ضعيفة ساقطة، فيوردونها المهالك، فلا أمل ولا عزة ولا كرامة.
ضعف الهمة هو الكارثة، هو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا، فأورثها قحطا وجفافا في رجال يصنعون الحياة والمستقبل، أورثها تبعية وتقليدا أعمى وتواكلا وكسلا واستسلاما لما يسمى الأمر الواقع..
ضعف الهمة هو سبب ضياع شوكة الأمة، وتداعي الأمم عليها، فمزقوا وحدتها، وفرقوا كلمتها، ونهبوا خيراتها، وهو الأمر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال:(يوشِك أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ كما تَدَاعَى الأكلة إلى قَصْعَتِها، قيل يا رسول الله، فمِن قلة يومئذ؟ قال لا، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوب عدوكم، لِحُبِّكُمُ الدنيا وكراهيتكم الموت). فحب الدنيا من ضعف الهمم بل هو كارثة على المجتمع وعلى الأمة بأكملها.
فلله ما أحكمَ عمر بن الخطاب، حين جلس إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر:تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا:ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟فقال عمر:ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
همة عمر ليس في الفضة ولا في الذهب، ولكن أمنيته، همته رجال من الطراز الممتازِ الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض.
وأنت فما همتك….؟

الأستاذ م.الرهواني

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق الطبع و النشر محمية من طرف الجديدة 36
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock